فصل: النوع الرابع: الاطلاع على كلام المتقدمين من المنظوم والمنثور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر (نسخة منقحة)



.النوع الثاني: معرفة ما يحتاج اليه من اللغة:

وهو قولنا إنه يحتاج إلى معرفة اللغة مما تداول استعماله فسيرد بيانه عند ذكر اللفظة الواحدة، والكلام على جيدها ورديئها في المقالة المختصة بالصناعة اللفظية.
ويفتقر أيضا مؤلف الكلام إلى معرفة عدة أسماء لما يقع استعماله في النظم والنثر، ليجد إذا ضاق به موضع في كلامه بإيراد بعض الألفاظ سعة في العدول عنه إلى غيره مما هو في معناه، وهذه الأسماء تسمى المترادفة، وهي اتحاد المسمى واختلاف أسمائه، كقولنا: الخمر، والراح والمدام، فإن المسمى بهذه الأسماء شيء واحد وأسماؤه كثيرة.
وكذلك يحتاج إلى معرفة الأسماء المشتركة ليستعين بها على استعمال التجنيس في كلامه، وهي اتحاد الاسم واختلاف المسميات، كالعين، فإنها تطلق على العين الناظرة، وعلى ينبوع الماء وعلى المطر، إلا أن المشتركة تفتقر في الاستعمال إلى قرينة تخصصها، كي لا تكون مبهمة لأنا إذا قلنا: عين، ثم سكتنا، وقع ذلك على محتملات كثيرة من العين الناظرة والعين النابعة والمطر وغيره مما هو موضوع بإزاء هذا الاسم، وإذا قرنا إليه قرينة تخصه زال ذلك الإبهام، بأن نقول: عين حسناء، أو عين نضاخة، أو ملثه، أو غير ذلك.
وهذا موضع للعلماء فيه مجاذبات جدلية: فمنهم من ينكر أن يكون اللفظ المشترك حقيقة في المعنيين جميعا ويقول: إن ذلك يخل بفائدة وضع اللغة، لأن اللغة إنما هي وضع الألفاظ في دلالتها على المعاني: أي وضع الأسماء على المسميات لتكون منبئة عنها عند إطلاق اللفظ، والاشتراك لا بيان فيه، وإنما هو ضد البيان، لكن طريق البيان أن يجعل أحد المعنيين في اللفظ المشترك حقيقة والآخر مجازا، فإذا قلنا هذه كلمة وأطلقنا القول، فهم منه اللفظة الواحدة، وإذا قيدنا اللفظ فقلنا هذه كلمة شاعرة فهم منه القصيدة المقصدة من الشعر، وهي مجموع كلمات كثيرة، ولو أطلقنا من غير تقييد وأردنا القصيدة من الشعر لما فهم مرادنا ألبتة.
هذا خلاصة ما ذهب إليه من ينكر وقوع اللفظ المشترك في المعنيين حقيقة، وفي ذلك ما فيه، وسأبين ما يدخله من الخلل، فأقول في الجواب عن ذلك ما استخرجته بفكري، ولم يكن لأحد فيه قول قبلي.
وهو أما قولك إن فائدة وضع اللغة إنما هو البيان عند إطلاق اللفظ واللفظ المشترك يخل بهذه الفائدة، فهذا غير مسلم بل فائدة وضع اللغة هو البيان والتحسين.
أما البيان فقد وفى به الأسماء المتباينة التي هي كل اسم واحد دل على مسمى واحد، فإذا أطلق اللفظ في هذه الأسماء كان بينا مفهوماً لا يحتاج إلى قرينة، ولو لم يضع الواضع من الأسماء شيئا غيرها لكان كافيا في البيان.
وأما التحسين فإن الواضع لهذه اللغة العربية التي هي أحسن اللغات نظر إلى ما يحتاج إليه أرباب الفصاحة والبلاغة فيما يصوغونه من نظم ونثر، ورأى أن من مهمات ذلك التجنيس، ولا يقوم به إلا الأسماء المشتركة التي هي كل اسم واحد دل على مسميين فصاعدا، فوضعها من أجل ذلك، وهذا الموضع يتجاذبه جانبان يترجح أحدهما على الآخر وبيانه أن التحسين يقضي بوضع الأسماء المشتركة، ووضعها يذهب بفائدة البيان عند إطلاق اللفظ، وعلى هذا فإن وضعها الواضع ذهب بفائدة البيان، وإن لم يضع ذهب بفائدة التحسين، لكنه إن وضع استدرك ما ذهب من فائدة البيان بالقرينة، وإن لم يضع لم يستدرك ما ذهب من فائدة التحسين، فترجح حينئذ جانبا الوضع فوضع.
فإن قيل: فلم لا تنسب الأسماء المشتركة إلى اختلاف القبائل لا إلى واضع واحد؟ قلت في الجواب: هذا تعسف لا حاجة إليه، وهو مدفوع من وجهين: أحدهما: ما قدمت القول فيه من الترجيح الذي سوغ للواضع أن يضع، الآخر: أنا نرى أنه قد ورد من الجموع ما يقع على مسميين اثنين، كقولهم: كعاب، جمع كعب الذي هو كعب الرجل، وجمع كعبة وهي البنية المعروفة، وإذا أطلقنا اللفظ فقلنا كعاب من غير قرينة لا يدرى ما المراد بذلك: أكعب الرجل أم البنية المعروفة؟ وكذلك ورد واحد وجمع على وزن واحد، كقولهم: راح، اسم للخمر، وراح جمع راحة وهي الكف، وكقولهم: عقاب، وهو الجزاء على الذنب، وجمع عقبة أيضا، وفي اللغة من هذا شيء كثير، وهو بالإجماع من علماء العربية أنه لم يجر فيه خلاف بين القبائل، فاتضح بهذا أن الأسماء المشتركة من واضع واحد.
فإن قلت: إن الواضع إنما وضع المفرد من الألفاظ والجمع وضعه غيره.
قلت في الجواب: إن الذي وضع المفرد هو الذي وضع الجمع، لأن من قواعد وضع اللغة أن يوضع المفرد والجمع، والمذكر والمؤنث، والمصغر والمكبر، والمصادر، وأسماء الفاعلين، وما جرى هذا المجرى، وإذا أخل بشيء من ذلك كان قد أخل بقاعدة من قواعد وضع اللغة، ثم لو سلمت إليك أن واضع الجمع غير واضع المفرد لكان ذلك قدحا في الواضع الثاني، إذ جاء بالإبهام عند إطلاق اللفظ لأنه جمع كعبة التي هي البنية وكعب الرجل، على كعاب، وهذا لفظ مشترك مبهم عند الإطلاق، ولا فرق بين أن يضعه الواضع الأول أو واضع ثان فإن الإبهام حاصل منه.
وكان فاوضني بعد الفقهاء في قوله تعالى في سورة البقرة: {صفراء فاقع لونها تسر الناظرين} وقال إن لون البقرة كان أسود، والأصفر هو الأسود، فأنكرت عليه هذا القول، فأخذ يجادل مجادلة غير عارف، ويعزو ذلك إلى تفسير النقاش، وتفسير البلاذري، فقلت له اعلم أن هذا الاسم الذي هو الأصفر لا يخلو في دلالته على الأسود من وجهين: إما أنه من الأسماء المتباينة التي يدل كل اسم منها على مسمى واحد كالإنسان والأسد والفرس وغير ذلك، وإما أنه من الأسماء المشتركة التي يدل الاسم منها على مسميين فصاعدا، ولا يجوز أن يكون من الأسماء المتباينة، لأنا نراه متجاذبا بين لونين: أحدهما هذا اللون الزعفراني الشكل، والآخر اللون المظلم الشكل، وعلى هذا فإنه يكون من الأسماء المشتركة، وإذا كان من الأسماء المشتركة فلا بد له من قرينة تخصصه باللون الزعفراني دون اللون المظلم، لأن الله تعالى قال: {صفراء فاقع لونها} والفاقع من صفات اللون الزعفراني خاصة، لأنه قد ورد للألوان صفات متعددة لكل لون منها صفة، فقيل: أبيض يقق، وأسود حالك، وأحمر قان، وأصفر فاقع، ولم يقل أسود فاقع، ولا أصفر حالك، فعلم حينئذ أن لون البقرة لم يكن أسود وإنما كان أصفر فلما تحقق عند ذلك الفقيه ما أشرت إليه أذعن بالتسليم.

.النوع الثالث: معرفة أمثال العرب وأيامهم:

وأما النوع الثالث فهو معرفة أمثال العرب وأيامهم، ومعرفة الوقائع التي وردت في حوادث خاصة بأقوام، وقولي هذا لا يقتضي كل الأمثال الواردة عنهم، فإن منها ما لا يحسن استعماله، كما أن من ألفاظهم أيضاً ما لا يحسن استعماله، وكنت جردت من كتاب الأمثال للميداني أوراقا خفيفة تشتمل على الحسن من الأمثال الذي يدخل في باب الاستعمال، وسبيل المتصدي لهذا الفن أن يسلك ما سلكته، وليعلم أن الحاجة إليها شديدة، وذلك أن العرب لم تضع الأمثال إلا لأسباب أوجبتها، وحوادث اقتضتها، فصار المثل المضروب لأمر من الأمور عندهم كالعلامة التي يعرف بها الشيء، وليس في كلامهم أوجز منها، ولا أشد اختصارا.
وسبب ذلك ما أذكره لك لتكون من معرفته على يقين، فأقول: قد جاء عن العرب من جملة أمثاله إن يبغ عليك قومك لا يبغ عليك القمر وهو مثل يضرب للأمر الظاهر المشهور، والأصل فيه كما قال المفضل بن محمد: أنه بلغنا أن بني ثعلبة بن سعد بن ضبة في الجاهلية تراهنوا على الشمس والقمر ليلة أربع عشرة من الشهر، فقالت طائفة: تطلع الشمس والقمر يرى، وقالت طائفة يغيب القمر قبل أن تطلع الشمس، فتراضوا برجل جعلوه حكما، فقال واحد منهم: إن قومي يبغون علي، فقال الحكم: إن يبغ عليك قومك لا يبغ عليك القمر. فذهبت مثلا، ومن المعلوم أن قول القائل إن يبغ عليك قومك لا يبغ عليك القمر إذا أخذ على حقيقته من غير نظر إلى القرائن المنوطة به والأسباب التي قيل من أجلها لا يعطي المعنى ما قد أعطاه المثل، وذلك أن المثل له مقدمات وأسباب قد عرفت، وصارت مشهورة بين الناس معلومة عندهم، وحيث كان الأمر كذلك جاز إيراد هذه اللفظات في التعبير عن المعنى المراد، ولولا تلك المقدمات المعلومة والأسباب المعروفة، لما فهم من قول القائل: إن يبغ عليك قومك لا يبغ عليك القمر ما ذكرناه من المعنى المقصود، بل كان يفهم من هذا القول معنى مفيد، لأن البغي هو الظلم، والقمر ليس من شأنه أن يظلم أحداً، فكان يصير معنى المثل: إن كان يظلمك قومك لا يظلمك القمر، وهذا كلام مختل المعنى ليس بمستقيم فلما كانت الأمثال كالرموز والإشارات التي يلوح بها على المعاني تلويحاً صارت من أوجز الكلام وأكثره اختصاراً، ومن أجل ذلك قيل في حد المثل: إنه القول الوجيز المرسل ليعمل عليه، وحيث هي بهذه المثابة فلا ينبغي الإخلال بمعرفتها.
وأما أيام العرب فإنها تتنوع وتتشعب، فمنها أيام فخار، ومنها أيام محاربة، ومنها أيام منافرة، ومنها غير ذلك، ولا يخلو الناظم والناثر من الانتصاب لوصف يوم يمر به في بعض الأحوال شبيها بيوم من تلك الأيام، ومماثلاً له، فإذا جاء بذكر بعض تلك الأيام المناسبة لمراده الموافقة له، وقاس عليه يومه، فإنه يكون في غاية الحسن والرونق، هذا لا خفاء به.
وأما الوقائع التي وردت في حوادث خاصة بأقوام، فإنها كالأمثال في الاستشهاد بها، وسأبين لك نبذة منها حتى تعلم مقدار الفائدة بها: فمن ذلك أنه ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم حديث بيعة الحديبية تحت الشجرة، وكان أرسل عثمان رضي الله عنه إلى مكة في حاجة عرضت له، ولم يحضر البيعة، فضرب رسول الله بيده الشمال على اليمين وقال: «هذه عن عثمان وشمالي خير من يمينه» وقد استعلمت أنا هذا في جملة كتاب فقلت: ولا يعد البر براً حتى يلحق الغيث بالحصور، ويصل من لم يصله بجزاء ولا شكور، فزنة الغائب بالشاهد من كرم الإحسان، ولهذا نابت شمال رسول الله عن يمين عثمان.
ومن ذلك أنه ورد عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه استدعى أبا موسى الأشعري ومن يليه من العمال، وكان منهم الربيع بن زياد الحارثي، فمضى إلى يرفأ مولى عمر، وسأله عما يروج عنده، وينفق عليه، فأشار إلى خشونة العيش، فمضى ولبس جبة صوف، وعمامة دسماء، وخفا مطابقا، وحضر بين يديه في جملة العمال، فصوب عمر نظره وصعده، فلم يقع إلا عليه، فأدناه وسأله عن حاله، ثم أوصى أبا موسى الأشعري به.
وقد استعملت أنا هذا في جملة تقليد لبعض الملوك من ديوان الخلافة، فقلت: وإذا استعنت بأحد على عملك فاضرب عليه بالأرصاد، ولا ترض بما عرفته من مبدأ حاله، فإن الأحوال تنتقل تنقل الأجساد، وإياك أن تخدع بصلاح الظاهر كما خدع عمر بن الخطاب بالربيع بن زياد.
فانظر كيف فعلت في هاتين القصتين؟ وكيف أوردتهما في الغرض الذي قصدته؟ وامض أنت على هذا النهج، فإنه من محاسن هذه الصنعة.
وعرض علي كتاب كتبه عبد الرحيم بن علي البيساني رحمه الله عن الملك صلاح الدين يوسف بن أيوب رحمه الله تعالى إلى ديوان الخلافة ببغداد في سنة إحدى وسبعين وخمسمائة وضمنه ما أبلاه في خدمة الدولة من فتح الديار المصرية، ومحو الدولة العلوية، وإقامة الدعوى العباسية، وشرح فيه ما قاساه في الفتح من الأهوال، ولما تأملته وجدته كتاباً حسناً قد وفي فيه الخطابة حقها، إلا أنه أخل بشيء واحد، وهو أن مصر لم تفتح إلا بعد أن قصدت من الشام ثلاث مرات، وكان الفتح في المرة الثالثة، وهذا له نظير في فتح النبي صلى الله عليه وسلم مكة، فإنه قصدها عام الحديبية، ثم سار إليها في عمرة القضاء، ثم سار إليها عام الفتح ففتحها.
وقد سألني بعض الإخوان أن أنشئ في ذلك كتاباً إلى ديوان الخلافة معارضا للكتاب الذي أنشأه عبد الرحيم بن علي رحمه الله، فأجبته إلى سؤاله، وعددت مساعي صلاح الدين يوسف بن أيوب رحمه الله فقلت: ومن جملتها ما فعله الخادم في الدولة المصرية وقد قام بها منبر وسرير وقالت: منا أمير ومنكم أمير، فرد الدعوة العباسية إلى معادها وأذكر المنابر ما نسيته بها من زهو أعوادها، وكانت أخرجت منها إخراج النبي صلى الله عليه وسلم من قريته، وقذف الشيطان على حقها بباطله وعلى صدقها بغويته، ثم طوتها الليالي طي السجل للكتاب، وكثر عليها مرور الدهر حتى نسي لها عدد السنين والحساب، ولم يعدها إلى وطنها حتى تغربت الأرواح عن أوطانها، وسهرت لها أجفان السيوف سهر العيون عن أجفانها، وتطاردت الآراء في تسهيل أمرها قبل مطاردة أقرانها، وحتى تقدمتها غربات ثلاث كلها ذوات غروب، وكل خطب من خطوبها ذو خطوب، إلى أن تمخض ليلها عن صبحه، وأصبحت في الإسلام كعام حديبيته وعمرة قضائه وعام فتحه، وفي ذكر أخبارها ما يطبع الأسنة في رءوس الأقلام ويرهب سامعها، ولم ينله شيء من مكروهها سوى الكلام، ويومها للدولة هو اليوم الذي أرخ فيه معاد نصرها، وميعاد بشرها، فإذا عدت لياليها السالفة كانت كسائر الليالي وهذه ليلة قدرها.
فهذا فصل من فصول الكتاب فانظر كيف ماثلت بين الفتح المصري وفتح مكة؟ وذكرت أيضا حديث الحباب بن المنذر الأنصاري حيث قال بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم منا أمير ومنكم أمير، وذلك لما حضر أبو بكر وعمر وأبو عبيدة بن الجراح رضي الله عنهم في سقيفة بني ساعدة، والقصة مشهورة فقال الحباب بن المنذر: منا أمير ومنكم أمير، فقال أبو بكر رضي الله عنه: بل نحن الأمراء وأنتم الوزراء، وهذا الذي ذكرته هو نكتة هذا الفتح التي عليها المعول، ومركزه الذي عليه يدور، وعجبت من عبد الرحيم بن علي البيساني مع تقدمه في فن الكتابة كيف فاته أن يأتي به في الكتاب الذي كتبه.
وكذلك وجدت لابن زياد البغدادي كتاباً كتبه إلى الملك صلاح الدين يوسف المقدم ذكره في سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة، وضمنه فصولاً تشتمل على أمور أنكرت عليه من ديوان الخلافة، فمن تلك الأمور التي أنكرت عليه أنه تلقب بالملك الناصر، وذلك اللقب هو لأمير المؤمنين خاصة، فإنه الإمام الناصر لدين الله، فلما وقفت على ذلك الكتاب وجدته كتاباً حسناً قد أجاد فيه كل الإجادة، ولم أجد فيه مغمزاً إلا في هذا الفصل الذي يتضمن حديث اللقب، فإنه لم يأت بكلام يناسب باقي الفصول المذكورة، بل أتى فيه بكلام فيه غثاثة، كقوله: ما يستصلحه المولى فهو على عبده حرام، وشيئاً من هذا النسق وكان الأليق والأحسن أن يحتج بحجة فيها روح، ويذكر كلاماً فيه ذلاقة ورشاقة.
وحضر عندي في بعض الأيام بعض إخواني، وجرى حديث ذلك فسألني عما كان ينبغي أن يكتب في هذا الفصل، فذكرت ما عندي، وهو: قد علم أن للأنبياء والخلفاء خصائص يختصون بها على حكم الانفراد، وليس لأحد من الناس أن يشاركهم فيها مشاركة الأنداد، وقد أجرى رسول الله ذلك في أشياء نص عليها بحكمه، ومن جملتها أنه نهى غيره أن يجتمع بين كنيته وبين اسمه، وهذا مسوغ لأمير المؤمنين أن يختص بأمر يكون به مشهوراً، وعلى غيره محظورا، وقد وسم نفسه بسمة نزلت عليه من السماء، وتميزت به من بين المسميات والأسماء، ثم استمرت عليها الأيام حتى خوطب بها من الحاضر والباد، ورفعها الخطباء على المنابر في أيام الجمع ومواسم الأعياد، وقد شاركته أنت فيها غير مراقب لمزية التعظيم، ولا فارق بين فسحة التحليل وحرج التحريم، والشرع والأدب يحكمان عليك بأن تلقى ما فرط منك بالمتاب، ولا تحوج فيه إلى التقريع الذي هو أشد العتاب، ومثلك من عرف الحق فأمسكه بيده، ونسخ إغفال أمسه باستئناف التيقظ في غده، والله قد رفع المؤاخذة عمن أتى الشيء خطأً لا عمداً، وقبل التوبة ممن أخذ على نفسه الإخلاص عهداً.
فانظر أيها المتأمل كيف جئت بالخبر النبوي، وجعلته شاهداً على هذا الموضع؟ ولا يمكن أن يحتج في مثل ذلك إلا بمثل هذا الاحتجاج، وما أعلم كيف شذ عن ابن زياد أن يأتي به مع أنه كان كاتباً مفلقاً أرتضي كتابته، ولم أجد في متأخري العراقيين من يماثله في هذا الفن.

.النوع الرابع: الاطلاع على كلام المتقدمين من المنظوم والمنثور:

وأما النوع الرابع: وهو الاطلاع على كلام المتقدمين من المنظوم والمنثور فإن في ذلك فوائد جمة، لأنه يعلم منه أغراض الناس، ونتائج أفكارهم، ويعرف به مقاصد كل فريق منهم، وإلى أين ترامت به صنعته في ذلك، فإن هذه الأشياء مما تشحذ القريحة، وتذكي الفطنة، وإذا كان صاحب هذه الصناعة عارفاً بها تصير المعاني التي ذكرت وتعب في استخراجها كالشيء الملقى بين يديه يأخذ منه ما أراد ويترك ما أراد، وأيضاً فإنه إذا كان مطلعاً على المعاني المسبوق إليها قد ينقدح له من بينها معنى غريب لم يسبق إليه، ومن المعلوم أن خواطر الناس وإن كانت متفاوتة في الجودة والرداءة فإن بعضها لا يكون عالياً على بعض أو منحطاً عنه إلا بشيء يسير، وكثيراً ما تتساوى القرائح والأفكار في الإتيان بالمعاني، حتى إن بعض الناس قد يأتي بمعنى موضوع بلفظ، ثم يأتي الآخر بعده بذلك المعنى واللفظ بعينهما من غير علم منه بما جاء به الأول، وهذا الذي يسميه أرباب هذه الصناعة وقوع الحافر على الحافر، وسيأتي لذلك باب مفرد في آخر كتابنا هذا إن شاء الله تعالى.

.النوع الخامس: معرفة الأحكام السلطانية:

وأما النوع الخامس: وهو معرفة الأحكام السلطانية من الإمامة والإمارة والقضاء والحسبة وغير ذلك، فإنما أوجبنا معرفتها والإحاطة بها لما يحتاج إليه الكاتب في تقليدات الملوك والأمراء والقضاة والمحتسبين ومن يجري مجراهم، وأيضاً فإنه قد يحدث في الإمامة حادث في بعض الأوقات: بأن يموت الإمام القائم بأمر المسلمين، ثم يتولى من بعده من لم تكمل فيه شرائط الإمامة، أو يكون كامل الشرائط غير أن الإمام الذي كان قبله عهد بها إلى آخر غيره وهو ناقص الشرائط، أو يكون قد تنازع الإمامة اثنان، أو يكون أرباب الحل والعقد قد اختاروا إماماً وهم غير كاملي الشرائط التي تجب أن توجد فيهم، أو يكون أمر غير ما ذكرناه، فتختلف الأطراف في ذلك، وينتصب ملك من الملوك له عناية بالإمام الذي قد قام للمسلمين، فيأمر كاتبه أن يكتب كتاباً في أمره إلى الأطراف المخالفة له، وإذا لم يكن الكاتب عند ذلك عارفاً بالحكم في هذه الحوادث واختلاف أقوال العلماء فيها، وما هو رخصة في ذلك وما ليس برخصة، لا يكتب كتاباً ينتفع به، ولسنا نعني بهذا القول أن يكون الكتاب مقصوراً على فقه محضٍ فقط، لأنا لو أردنا ذلك لما كنا نحتاج فيه إلى كتب كتاب بلاغي، بل كنا نقتصر على إرسال مصنف من مصنفات الفقه عوضاً عن الكتاب، وإنما قصدنا أن يكون الكاتب الذي يكتب في هذا المعنى مشتملاً على الترغيب والترهيب، والمسامحة في موضع والمحاقة في موضع، مشحوناً ذلك بالنكت الشرعية المبرزة في قوالب البلاغة والفصاحة، كما فعل الكاتب الصابي في الكتاب الذي كتبه عن عز الدولة بختيار بن معز الدولة ابن بويه إلى الإمام الطائع لما خلع المطيع، فإنه من محاسن الكتب التي تكتب في هذا الفن.

.النوع السادس: حفظ القرآن الكريم:

وأما النوع السادس: وهو حفظ القرآن الكريم فإن صاحب هذه الصناعة ينبغي له أن يكون عارفاً بذلك لأن فيه فوائد كثيرة، منها أنه يضمن كلامه بالآيات في أماكنها اللائقة بها ومواضعها المناسبة لها، ولا شبهة فيما يصير للكلام بذلك من الفخامة والجزالة والرونق، ومنها أنه إذا عرف مواقع البلاغة وأسرار الفصاحة المودعة في تأليف القرآن اتخذه بحراً يستخرج منه الدرر والجواهر ويودعها مطاوي كلامه، كما فعلته أنا فيما أنشأته من المكاتبات، وكفى بالقرآن الكريم وحده آلة وأداة في استعمال أفانين الكلام، فعليك أيها المتوشح لهذه الصناعة بحفظه والفحص عن سره وغامض رموزه وإشاراته، فإنه تجارة لن تبور، ومنبع لا يغور، وكنز يرجع إليه، وذخر يعول عليه.

.النوع السابع: حفظ الأخبار النبوية:

وأما النوع السابع وهو حفظ الأخبار النبوية مما يحتاج إلى استعماله فإن الأمر في ذلك يجري مجرى القرآن الكريم، وقد تقدم القول عليه فاعرفه.

.النوع الثامن: معرفة علمي العروض والقوافي:

وأما النوع الثامن: وهو ما يختص بالناظم دون الناثر، وذلك معرفة العروض وما يجوز فيه من الزخارف وما لا يجوز، فإن الشاعر محتاج إليه، ولسنا نوجب عليه المعرفة بذلك لينظم بعلمه، فإن النظم مبني على الذوق، ولو نظم بتقطيع الأفاعيل لجاء شعره متكلفاً غير مرضي، وإنما أريد للشاعر معرفة العروض لأن الذوق قد ينبو عن بعض الزخارف ويكون ذلك جائزاً في العروض، وقد ورد للعرب مثله، فإذا كان الشاعر غير عالم به لم يفرق بين ما يجوز من ذلك وما لا يجوز، وكذلك أيضاً يحتاج الشاعر إلى العلم بالقوافي والحركات، ليعلم الروي والردف وما يصح من ذلك وما لا يصح.
فإذا أكمل صاحب هذه الصناعة معرفة هذه الآلات وكان ذا طبع مجيب وقريحة مواتية، فعليه بالنظر في كتابنا هذا، والتصفح لما أودعناه من حقائق علم البيان، ونبهنا عليه من أصول ذلك وفروعه، على أن الذي ذكرناه من هذه الآلات الثمان هو كالأصل لما يحتاج إليه الخطيب والشاعر ومعرفته ضرورية لا بد منها، وهاهنا أشياء هي كالتوابع والروادف.
وبالجملة فإن صاحب هذه الصناعة يحتاج إلى التشبث بكل فن من الفنون، حتى إنه يحتاج إلى معرفة ما تقوله النادبة بين النساء، والماشطة، عند جلوة العروس، وإلى ما يقوله المنادي في السوق على السلعة، فما ظنك بما فوق هذا، والسبب في ذلك أنه مؤهل لأن يهيم في كل واد، فيحتاج أن يتعلق بكل فن.

.الفصل الثالث: في الحكم على المعاني:

وفائدة هذا الفصل الإحاطة بأساليب المعاني على اختلافها وتباينها، وصاحب هذه الصناعة مفتقر إلى هذا الفصل والذي يليه، بخلاف غيرهما من هذه الفصول المذكورة، لا سيما مفسري الأشعار، فإنهم به أعنى.
واعلم أن الأصل في المعنى أن يحمل على ظاهره لفظه، ومن يذهب إلى التأويل يفتقر إلى دليل، كقوله تعالى: {وثيابك فطهر} فالظاهر من لفظ الثياب هو ما يلبس، ومن تأول ذهب إلى أن المراد هو القلب، لا الملبوس، وهذا لا بد له من دليل، لأنه عدول عن ظاهر اللفظ وكذلك ورد عن عيسى بن مريم عليه السلام أنه قال: إذا أردت أن تصلي فادخل بيتك وأغلق بابك فالظاهر من هذا هو البيت والباب، ومن تأول ذهب إلى أنه أراد أنك تجمع عليك هم قلبك وتمنع أن يخطر به سوى أمر الصلاة، فعبر عن القلب بالبيت وعن منع الخواطر التي تخطر له بإغلاق الباب، وهذا يحتاج إلى دليل، لأنه عدول عن ظاهر اللفظ، فالمعنى المحمول على ظاهره لا يقع في تفسيره خلاف، والمعنى المعدول عن ظاهره إلى التأويل يقع فيه الخلاف، إذ باب التأويل غير محصور، والعلماء متفاوتون في هذا فإنه قد يأخذ بعضهم وجهاً ضعيفاً من التأويل فيكسوه بعبارته قوة تميزه على غيره من الوجوه القوية، فإن السيف بضاربه:
إن السيوف مع الذين قلوبهم ** كقلوبهن إذا التقى الجمعان

تلقى الحسام على جراءة حده ** مثل الجبان بكف كل جبان

وذهب بعضهم في الفرق بين التفسير والتأويل إلى شيء غير مرضي، فقال: التفسير: بيان وضع اللفظ حقيقة، كتفسير الصراط بالطريق، والتأويل: إظهار باطن اللفظ، كقوله تعالى: {إن ربك لبالمرصاد} فتفسيره من الرصد، يقال: رصدته، إذا رقبته، وتأويله تحذير العابد من تعدي حدود الله ومخالفة أوامره، والذي عندي في ذلك أنه أصاب في الآخر، ولم يصب في الأول، لأن قوله التفسير بيان وضع اللفظ حقيقة لا مستند لجوازه، بل التفسير يطلق على بيان وضع اللفظ حقيقة ومجازاً، لأنه من الفسر، وهو الكشف، كتفسير الرصد في الآية المشار إليها بالرقبة وتفسيره بالتحذير من تعدي حدود الله ومخالفة أوامره. وأما التأويل فإنه أحد قسمي التفسير، وذاك أنه رجوع عن ظاهر اللفظ، وهو مشتق من الأول، وهو الرجوع، يقال: آل يؤل، إذا رجع، وعلى هذا فإن التأويل خاص والتفسير عام، فكل تأويل تفسير وليس كل تفسير تأويلاً، ولهذا يقال: تفسير القرآن، ومن تفسيره ظاهر وباطن، وهذا الفصل الذي نحن بصدد ذكره هاهنا يرجع أكثره إلى التأويل لأنه أدق.
ولا يخلو تأويل المعنى من ثلاثة أقسام: إما أن يفهم منه شيء واحد لا يحتمل غيره، وإما أن يفهم منه الشيء وغيره، وتلك الغيرية: إما أن تكون ضداً، أو لا تكون ضداً، وليس لنا قسم رابع.
فالأول يقع عليه أكثر الأشعار، ولا يجري في الدقة واللطافة مجرى القسمين الآخرين.
وأما القسم الثاني: فإنه قليل الوقوع جداً، وهو من أظرف التأويلات المعنوية، لأن دلالة اللفظ على المعنى وضده أغرب من دلالته على المعنى وغيره مما ليس بضده، فمما جاء منه قول النبي صلى الله عليه وسلم: «صلاةٌ في مسجدي هذا خيرٌ من ألف صلاةٍ في غيره من المساجد إلا المسجد الحرام» فهذا الحديث يستخرج منه معنيان ضدان: أحدهما: أن المسجد الحرام أفضل من مسجد رسول الله، والآخر: أن مسجد رسول الله أفضل من المسجد الحرام: أي أن صلاة واحدة فيه لا تفضل ألف صلاة في المسجد الحرام، بل تفضل ما دونها، بخلاف المساجد الباقية فإن ألف صلاة فيها تقصر عن صلاة واحدة فيه.
وكذلك جاء قول النبي صلى الله عليه وسلم أيضاً: «من كلام النبوة الأولى إذا لم تستح فاصنع ما شئت» وهذا يشتمل على معنيين ضدين: أحدهما: أن المراد به إذا لم تفعل فعلاً تستحي منه فافعل ما شئت، والآخر: أن المراد به إذا لم يكن لك حياء يزعك عن فعل ما يستحى منه فافعل ما شئت، وهذان معنيان ضدان أحدهما مدح والآخر ذم.
ومثله ورد في الحديث النبوي أيضاً، وذلك أنه ذكر شريح الحضرمي عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «لا يتوسد القرآن» وهذا يحتمل مدحاً وذماً، أما المدح فالمراد به أنه لا ينام الليل عن القرآن فيكون القرآن متوسداً معه لم يتهجد به، وأما الذم فالمراد به أنه لا يحفظ من القرآن شيئا، فإذا نام لم يتوسد معه القرآن، وهذان التأويلان من الأضداد.
وكثيراً ما يرد أمثال ذلك في الأحاديث النبوية.
ويجري على هذا النهج من الشعر قول أبي الطيب في قصيدة يمدح بها كافوراً:؟ وأظلم أهل الظلم من بات حاسداً لمن بات في نعمائه يتقلب وهذا البيت يستخرج منه معنيان ضدان: أحدهما أن المنعم عليه يحسد المنعم، والآخر: أن المنعم يحسد المنعم عليه.
وكذلك ورد قوله أيضاً من قصيدة يمدحه:
فإن نلت ما أملت منك فربما ** شربت بماءٍ يعجز الطير ورده

فإن هذا البيت يحتمل مدحاً وذماً، وإذا أخذ بمفرده من غير نظر إلى ما قبله فإنه يكون بالذم أولى منه بالمدح، لأنه يتضمن وصف نواله بالبعد والشذوذ وصدر البيت مفتتح بإن الشرطية، وقد أجيب بلفظة رب التي معناها التقليل: أي لست من نوالك على يقين، فإن نلته فربما وصلت إلى مورد لا يصل إليه الطير لبعده، وإذا نظر إلى ما قبل هذا البيت دل على المدح خاصة، لارتباطه بالمعنى الذي قبله.
وكثيراً ما كان يقصد المتنبي هذا القسم في شعره، كقوله من قصيدة أولها:
عدوك مذمومٌ بكل لسان ** ولو كان من أعدائك القمران

ولله سرٌ في علاك وإنما ** كلام العدا ضربٌ من الهذيان

ثم قال:
فما لك تعنى بالأسنة والقنا ** وجدك طعان بغير سنان

فإن هذا بالذم أشبه منه بالمدح، لأنه يقول: لم تبلغ ما بلغته بسعيك واهتمامك، بل بجد وسعادة، وهذا لا فضل فيه، لأن السعادة تنال الخامل والجاهد، ومن لا يستحقها، وأكثر ما كان المتنبي يستعمل هذا القسم في قصائده الكافوريات.
وحكى أبو الفتح بن جني قال: قرأت على أبي الطيب ديوانه، إلى أن وصلت إلى قصيدته التي أولها:
أغالب فيك الشوق والشوق أغلب

فأتيت منها على هذا البيت وهو:
وما طربي لما رأيتك بدعةٌ ** لقد كنت أرجو أن أراك فأطرب

فقلت له يا أبا الطيب، لم تزد على أن جعلته أبا رنة، فضحك لقولي.
وهذا القسم من الكلام يسمى الموجه: أي له وجهان، وهو مما يدل على براعة الشاعر وحسن تأتيه.
وأم القسم الثالث فإنه يكون أكثر وقوعاً من القسم الثاني، وهو واسطة بين طرفين، لأن القسم الأول كثير الوقوع، والقسم الثاني قليل الوقوع، وهذا القسم الثالث وسط بينهما.
فمما جاء منه قوله تعالى: {ولا تقتلوا أنفسكم} فإن هذا له وجهان من التأويل: أحدهما القتل الحقيقي الذي هو معروف، والآخر هو القتل المجازي، وهو الإكباب على المعاصي، فإن الإنسان إذا أكب على المعاصي قتل نفسه في الآخرة.
ومن ذلك ما ورد في قصة إبراهيم وذبح ولده عليهما السلام، فقال الله تعالى حكاية عنه: {وقال إني ذاهب إلى ربي سيهدين رب هب لي من الصالحين فبشرناه بغلامٍ حليمٍ فلما بلغ معه السعي قال يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى قال يا أبت افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين فلما أسلما وتله للجبين وناديناه أن يإبراهيم قد صدقت الرؤيا إنا كذلك نجزي المحسنين إن هذا لهو البلاء المبين وفديناه بذبحٍ عظيمٍ وتركنا عليه في الآخرين سلامٌ على إبراهيم كذلك نجزي المحسنين إنه من عبادنا المؤمنين وبشرناه بإسحاق نبيا من الصالحين} فقوله تعالى: {وبشرناه بإسحاق نبيًا من الصالحين} قد يكون بشارة بنبوته بعد البشارة بميلاده، وقد يكون استئنافاً بذكره بعد ذكر إسماعيل عليه السلام وذبحه، والتأويل متجاذب بين هذين الأمرين، ولا دليل على الاختصاص بأحدهما، ولم يرد في القرآن ما يدل على أن الذبيح إسماعيل ولا إسحاق عليهما السلام، وكذلك لم يرد في الأخبار التي صحت عن رسول الله وأما ما يروى عنه أنه قال: «أنا ابن الذبيحين» فخارج عن الأخبار الصحيحة، وفي التوراة أن إسحاق عليه السلام هو الذبيح.
ومن ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم لأزواجه: «أطولكن يداً أسرعكن لحوقاً بي» فلما مات صلوات الله عليه جعلن يطاولن بين أيديهن حتى ينظرن أيتهن أطول يداً، ثم كانت زينب أسرعهن لحوقاً به، وكانت كثيرة الصدقة، فعلمن حينئذ أنه لم يرد الجارحة، وإنما أراد الصدقة، فهذا القول يدل على المعنيين المشار إليهما.
ومن ذلك ما روي عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه قال: خدمت رسول الله عشر سنين، فلم يقل لشيءٍ فعلته لم فعلته ولا لشيءٍ لم أفعله لم لا فعلته، وهذا القول يحتمل وجهين من التأويل: أحدهما وصف رسول الله بالصبر على خلق من يصحبه، والآخر أنه وصف نفسه بالفطنة والذكاء فيما يقصده من الأعمال، كأنه متفطن لما في نفس رسول الله فيفعله من غير حاجة إلى استئذانه.
ومن ذلك ما ورد في الأدعية النبوية، فإنه دعا على رجل من المشركين فقال: «اللهم اقطع أثره» وهذا يحتمل ثلاثة أوجه من التأويل: الأول أنه دعا عليه بالزمانة، لأنه إذا زمن لا يستطيع أن يمشي على الأرض، فينقطع حينئذ أثره، الوجه الثاني: أنه دعا عليه بأن لا يكون له نسل من بعده ولا عقب، الوجه الثالث: أنه دعا عليه بأن لا يكون له أثر من الآثار مطلقاً وهو أن لا يفعل فعلاً يبقى أثره من بعده كائناً ما كان من عقب أو بناء أو غراس أو غير ذلك.
وظفرت الحرورية برجل فقالوا له: ابرأ من علي وعثمان، فقال: أنا من علي ومن عثمان أبرأ، فهذا يدل على معنيين أحدهما أنه بريء من عثمان وحده، والآخر: أنه بريء منهما جميعا، والرجل لم يرد إلا الوجه الأول.
ومن ذلك ما يحكى عن عبد المسيح بن بقيلة لما نزل بهم خالد بن الوليد على الحيرة، وذاك أنه خرج إليه عبد المسيح بن بقيلة، فلما مثل بين يديه قال: انعم صباحاً أيها الملك، فقال له خالد: قد أغنانا الله عن تحيتك هذه بسلام عليكم، ثم قال له: من أين أقصي أثرك؟ قال: من ظهر أبي، قال: فمن أين خرجت؟ قالت من بطن أمي، قال فعلام أنت؟ قال: على الأرض، قال: ففيم أنت؟ قال: في ثيابي، قال: ابن كم أنت؟ قال: ابن رجل واحد، قال خالد: ما رأيت كاليوم قط، أنا أسأله عن الشيء وهو ينحو في غيره، وهذا من توجيه الكلام على نمط حسن، وهو يصلح أن يكون جواباً لخالد عما سأل، ويصلح أن يكون جواباً لغيره مما ذكره عبد المسيح بن بقيلة.
وقد ورد في التوراة أن لا يؤكل الجدي بلبن أمه، وهذا يحتمل التحريم في وجهين: أحدهما ما دل عليه ظاهر لفظه، وهو تحريم لحم الجدي بلبن أمه خاصة، وإذا أكل بلبن غير لبن أمه جاز ذلك، ولم يكن حراماً، وهذا لا يؤخذ به أحد من اليهود، والوجه الآخر وهو الذي يأخذ به عند اليهود جميعهم أن أكل اللحم باللبن حرام، كائناً ما كان من اللحوم، إلا طائفة منهم يسمون القرائين، فإنهم تأولوا فأكلوا لحم الطير باللبن، وقالوا: إنما حرم اللحم باللبن من اللحوم ذوات الألبان، والطير من ذوات البيض لا من ذوات الألبان.
ومما يجري على هذا النهج ما يحكى عن أفلاطون أنه قال: ترك الدواء دواء، فذهب بعض الأطباء أنه أراد: إن لطف المزاج، وانتهى إلى غاية لا يحتمل الدواء، فتركه حينئذ والإضراب عنه دواء، وذهب آخرون إلى أنه أراد بالترك الوضع: أي وضع الدواء على الداء دواء، يشير بذلك إلى حذق الطبيب في أوقات علاجه.
ومثله في الشعر قول الفرزدق:
إذا جعفر مرت على هضبة الحمى ** فقد أخزت الأحياء منها قبورها

وهذا يدل على معنيين: أحدهما: ذم الأحياء، والآخر: ذم الأموات، أما ذم الأحياء فهو أنهم خذلوا الأموات، يريد أنهم تلاقوا في قتالهم وقوماً آخرين ففر الأحياء عنهم وأسلموهم، أو أنهم استنجدوهم فلم ينجدوهم، وأما ذم الأموات فهو أن لهم مخازي وفضائح توجب عاراً وشناراً، فهم يعيرون بها الأحياء ويلصقونها بهم.
وعلى هذا ورد قول أبي تمام:
بالشعر طولٌ إذا اصطكت قصائده ** في معشرٍ وبه عن معشرٍ قصر

فهذا البيت يحتمل تأويلين: أحدهما أن الشعر يتسع مجاله بمدحك ويضيق بمدح غيرك، يريد بذلك أن مآثره كثيرة، ومآثر غيره قليلة، والآخر: أن الشعر يكون ذا فخر ونباهة بمدحك، وذا خمول بمدح غيرك، فلفظة الطول يفهم منها ضد القصر، ويفهم منها الفخر، من قولنا طال فلان على فلان أي فخر عليه.
ومما ينتظم بهذا السلك قول أبي كبير الهذلي:
عجبت لسعي الدهر بيني وبينها ** فلما انقضى ما بيننا سكن الدهر

وهذا يحتمل وجهين من التأويل: أحدهما أنه أراد بسعي الدهر سرعة تقضي الأوقات مدة الوصال، فلما انقضى الوصل عاد الدهر إلى حالته في السكون والبطء، والآخر أنه أراد بسعي الدهر سعي أهل الدهر بالنمائم والوشايات، فلما انقضى ما كان بينهما من الوصل سكنوا وتركوا السعاية، وهذا من باب وضع المضاف إليه مكان المضاف، كقوله تعالى: {واسأل القرية} أي أهل القرية.
ومن الدقيق المعني في هذا الباب قول أبي الطيب المتنبي في عضد الدولة من جملة قصيدته التي أولها:
أوه بديلٌ من قولتي واها

فقال:
لو فطنت خيله لنائله ** لم يرضها أن تراه يرضاها

وهذا يستنبط منه معنيان غيران: أحدهما أن خيله لو علمت مقدار عطاياه، لأن عطاياه أنفس منها، والآخر: أن خيله لو علمت أنه يهبها من جملة عطاياه لما رضيت بذلك، إذ تكره خروجها عن ملكه، وهذان الوجهان أنا ذكرتهما وإنما المذكور منهما أحدهما.
وهذا الذي أشرت إليه من الكلام على المعاني وتأويلاتها كافٍ لمن عنده ذوق وله قوة على حملها على أشباهها ونظائرها.